الأربعاء، 1 مايو 2019

ثأر ( بقلم : مصطفى الحاج حسين )

ثأر ...

                        قصة : مصطفى الحاج حسين .    

                                                                       - (( حدث ما توقعته ، فما إن استلم الإدارة ، ووضعَ

مؤخرته على كرسيها ، حتى أرسل بطلبي .

شكوكي تقودني إلى الاعتقاد بأنّ المدير ، لم ينتقل

إلى الشركة إلاّ من أجلي ، وأؤكد بأنّهُ يعرف أنّي

أعمل هنا ، وإلاّ فمن أين علم بوجودي ؟!..

ليستدعيني بهذه السّرعة !.

        نعم ... كنتُ محقاً عندما فكّرتُ بأن أقدّم

استقالتي ، لن أدعه يشمتَ بي ، لن أعطيهِ فرصة

للإنتقام ، سأقذفُ استقالتي بوجههِ فورَ دخولي ،

وإذا وجدتُ منهُ حركة أو كلمة يمكن أن تسيء إليّ،

سأصرخ بوجههِ دونَ خوفٍ :

        ـ ما زلتَ بنظري .. ذلكَ الطّفل ..ابن ( الزّبال ) ،

٠ وإن صرتَ مديراً كبيراً . )) .

        ولأنّهُ مستاءٌ من مديرهِ الجّديد ، ولأنّهُ لا يكنّ

له سوى البغض ، فقد قررَ أن لا يطرقَ الباب ،

يرفض أن يقفَ للإستئذان ، أمسكَ القبضة بعنفٍ ،

فتحَ بجلافةٍ ، وما إن أبصرَ المدير جالساً خلفَ

طاولتهِ ، حتّى حدجهُ بنظرةٍ قاسيةٍ ، ممتلئة بالكرهِ

والتّحدي .

        نهضَ المدير بعجلةٍ ، وابتسامة عذبة ترتسمُ

على شفتيهِ ، هاتفاً بصوتٍ كلّهُ صفاء :

       ـ ( حسين ) !!.. أهلاً وسهلاً .. أهلاً وسهلاً .

        تحرّكَ من وراءِ طاولتهِ ، مادَّاّ ذراعيهِ لملاقاةِ

( حسين ) ، الّذي أدهشتهُ المفاجأة . للوهلةِ الأولى ،

ظنَّ أنَّ المدير يسخر منه ، وراحَ يقتربُ ببطءٍ وحذرٍ

شديدينِ ، غيرَ مصدق أنّه سيضمّهُ إلى صدرهِ ،

حيثُ سيلوثُ طقمَ المدير ببزَّتهِ المتّسخةِ .

        تابعَ المدير ترحابهِ الحارّ ، بينما كان يقترب من

العاملِ المتجمّد الملامح ، ليأخذه إلى صدرهِ ،

ويضمّه بقوةٍ وشوقٍ ، ثمّ ينهمر على خديهِ بالقبلاتِ

الحارّةِ ، ورغم هذا ظلّ ( حسين ) محافظاً على

صمتهِ وجمودهِ ، وعادت عباراتُ التّرحيب من

المدير :

        ـ أهلاً ( حسين ) ، والله زمان .. كيف

أحوالك ؟ .

        ولأوّل مرّة يجد العامل نفسه مضطراّ لأن

يحركَ شفتيهِ ، ويتمتم ببرودٍ جافٍ :

        ـ  أهلاً حضرة المدير .

        قهقه المدير من هذهِ العبارة الرَّسمية ، بينما

سيطر الرّعب على قلبِ ( حسين ) ، فأخذَ يتراجع

إلى الخلفِ ، في حين امتدّت يده إلى جيبهِ ، لتقبض

أصابعه على استقالتهِ الجّاهزة ، كسلاحٍ يشهره

بوجهِ المدير ، لكنَّ المدير اقترب ، ليقولَ بلهجةِ

المعاتبِ :

        ـ أيّ ( حضرة مدير ) يا ( حسين ) ! ، أهكذا

تخاطبني ؟!.. سامحكَ الله ، نحنُ أخوة وأصدقاء  .

        لم يجد ( حسين ) ، سهولة في أن يطمئنَّ

لشخصِ المدير هذا ، فهو يرى كلّ كلمة ينطقها ، أو

حركة يقوم بها ، سخرية منه ، لكنّه في الوقتِ

ذاتهِ ، كانَ في منتهى الحيرة والاندهاش ، لأنّه يكاد

يلمس الصّدق من نبراتِ صوت المدير ، ومن نظراتهِ

التي تفيض بالسّعادةِ والمودّةِ ، وتساءلَ في أعماقهِ

الحائرة :

         ـ أهذا معقول !؟.. هل أصدقه وأطمئنّ

إليهِ ؟!.. هل نسي ما فعلته به ، ونحنُ أطفال ؟!..

أهو متسامح إلى هذه الدرجة ؟!.. أم يكذب

وينصب لي فخاً ؟!.

        ونتبهَ إلى صوتِ المدير يطلب منهُ الجلوسَ

على الكرسي الوثير . في البدايةِ ارتبكَ ، وحاولَ

الاعتذار ، لكنّ الحاحَ المدير ، جعلهُ ينصاعَ ،

ويقترب ليجلس على حافةِ الكرسي ، وكأنّه يهمّ

بالإنزلاق .

        لم يجلس المدير خلفَ طاولته ، بل جثم على

كرسي قبالتهِ ، وبعدَ أن ربّتَ بيدهِ على كتفِ

( حسين )، همسَ :

        ـ مشتاقٌ إليكَ يا ( حسين ) ... أكثر من عشرينَ

سنة ، ونحنُ لم نلتقِ .

        فكّر أن ينهضَ عن كرسيهِ ، ويرمي استقالته

بوجهِ صديقه ومديره ، ليخرج مسرعاً من هذا

المكتب ، لم يعد يطيق مثلَ هذا العذاب ، فهو في

أوجِ حيرته ، هل يأخذ راحته مع صديقهِ المدير  ؟ !

أو يستمرّ في حذرهِ ومخاوفهِ ، إنّه لا يملك دليلاً

واحداً ، ولو صغيراً ، على أنّ المدير يسخر منه .

        قدم المدير إليهِ لفافة تبغٍ ، وحينَ التقطها

بأصابعهِ الرّاعشة ، كانَ المدير قد أخرجَ قدّاحته ،

وخيّل إليهِ أنّ المديرَ سيقوم باحراقِ ( شواربهِ )

الغزيرة ، جفلَ للوهلةِ الأولى ، تراجعَ إلى الخلفِ ،

لكنّه أدركَ أنّهُ يبالغ في مخاوفهِ ، فدنا ليشعلَ

لفافتهِ :

        ـ تصوّر يا ( حسين ) لم أكن سعيداً باستلامي

الشّركة ، إلّا بعدَ أن قرأت اسمكَ بينَ أسماء

الموظفين .. أنا بصراحة انتقلت إلى هنا ، دونَ رغبة

منّي .

        همسَ بسرّهِ ، بعدَ أن نفثَ دخّان لفافتهِ بأنفاسٍ

متقطعةٍ ، مضطربة :

        ـ بالطّبع ستكون سعيداً ، بوجودي ، فها أنتَ

تقابلني منتصراً ، من كانَ يصدّق أنكَ ستكون مديراً

عليّ ذات يوم ؟! أنا الذي كنتُ أهزأ منكَ في

المدرسةِ والأزقّة .

        ومرة أخرى .. يخرجُ من شرودهِ ، على صوتِ

المدير :
        ـ ماذا تحبّ أن تشربَ ؟.

        ـ أنا .. لا شيءَ .. شكراً .. ياحضرة المدير .

   للمرةِ الأولى تنعقدُ الدّهشة على وجهِ المدير ،

وتذبل ابتسامته :

        ـ مابكَ يا ( حسين ) ؟!!.. لماذا تخاطبني بهذه

الطريقة ؟!.. هل ستكون العلاقة بيننا رسمية ؟!.

حاول أن يجمعَ شتات قواه ، ليهتفَ بصوتٍ حازم :

        ـ نعم يا جنابَ المدير ، أتمنّى أن تكونَ العلاقة

بيننا رسمية ، ورسمية جداً .

اتّسعت الدّهشة على وجهِ المدير المكتنز ، أرجع

رأسه ، وأرسل نظراته المستطلعة ، لتقرأ ما يجول

في رأسِ صديقه القديم :

        ـ ( حسين ) .. ماذا جرى لكَ ؟!.. أخبرني

أرجوك .. هل هناكَ ما يضايقك ؟!.

ولأنّهُ مازالَ محتفظاً ببقايا عزيمتهِ ، قال :

        ـ بصراحة ياحضرة المدير ، أنا حائر ، أكاد لا

أفهمك ، وأشكّ بأنّكَ تسخر منّي .

دهشت المدير بلغت ذروتها ، مما جعلتهُ يهتف

باستغرابٍ شديد :

        ـ أنا أسخر منكَ !!!.. معاذ الله ... أنتَ صديق

طفولتي .

نهضَ عن الكرّسي ، الذي لا يتناسب وبزّته .. قائلاً :

        ـ أنا لا أنسى كيفَ كنتُ أعذّبكَ ، وأسخر منكَ

أيّام الطّفولة .

انفردت أسارير المدير ، وعادت إليهِ الإبتسامة :

        ـ معقول يا ( حسين ) !!!.. هل تظنّني حاقداً

عليكَ ؟.. كنّا أطفالاً .. اجلس ياصديقي .. اجلس  ،

حدثني عن أحوالك ، وعن زوجتك ، وأولادك ، ثم

أخبرني إن كنتَ مرتاحاً بعملكَ هنا ؟ .

        قال المدير هذا الكلام ، في  حين كانت يده

ممتدة نحو صديقه ، ليرغمه على الجلوس .

همس ( حسين ) بتلعثمٍ واضحٍ :

        ـ أنا خجل منكَ .. ومن نفسي ، لقد كنتُ طفلاً

شريراً ، عذّبتكَ كثيراً ، وأهنتكَ .

نظرَ المدير صوبَ صديقه بحنانٍ ومودّة :

        ـ هل تصدق ، إنّي أحنّ إلى أيامِ الطّفولة تلك ،

أنتَ صاحب فضل عليّ ، فلولا سخرياتكَ منّي ،

ومن والدي عامل التّنظيفات ، لما تابعت تعليمي ،

كنتَ أنتَ بمقالبكَ المريرة دافعي للتحدّي

والدّراسة .
    
       في تلكَ اللحظة ، طفرت من عينيّ ( حسين )

دمعتانِ صغيرتانِ حارّتانِ ، قفزَ ليحتضنَ صديقه ،

الّذي طالما أمعنَ في تعذيبهِ ، همسَ بصوتٍ تخنقهُ

العبرات :

        ـ أنتَ عظيم يا ( عبد الجليل ) ، طوال عمركَ

كنتَ أفضل منّي ، أرجوكَ سامحني .

        تربّعت الدّهشة على وجهِ الآذن ، وهو يدخل

حاملاً القهوة ، لقد رأى المدير الجّديد المفرط في

أناقتهِ ، يعانق العامل ( حسين ) ، ذي البزّة القذرة ،

المتّسخة ، وكانا ذاهلين عنه ، في عناقٍ طويل .

                 مصطفى الحاج حسين .
                               حلب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق