الثلاثاء، 15 مايو 2018

تل مكسور...

تل مكسور ...

                         قصة : مصطفى الحاج حسين .
                                                     
                                                                                 مضى على تعيين الأستاذ [ حمدان العمر ] ،

أكثر من ثلاث سنوات ، معلما وحيدا في قرية [ تل

مكسور ] ، دون أن يطلب نقله إلى قريته القريبة ،

بالرغم من حاجة أبويه العجوزين ، إلى خدماته في

الأرض التي يتملّكانها ، فهو يرى نفسه كل شيء في

[ تل مكسور ] ، فإذا انتقل إلى قريته ، ذهبت مكانته

وهيبته ، ولسوف يضطر أن ينزل من عليائه ، ليعمل

في الأرض ، بدافع الحياء والواجب أمام الحاح

والديه .

          لقد أوهم الجميع ـ بمن فيهم المختار ـ [ أبو

قاسم ] بأنه رجل مسنود في المحافظة ، بأن أبرز

لهم بطاقة غريبة ، على أنها بطاقة أمنية ، فانتشر

صيته حتى شمل القرى المجاورة ، كما اشتهر

بقسوته وبطشه ، وكثيرا ما كان يبتسم في سره ،

حين يتذكر خوف الكبار منه قبل الصغار .

         وماكان يغريه في البقاء في [ تل مكسور ] ، ما

يلقاه من خدمة واهتمام وتبجيل ، فقد سكن في

أحسن البيوت ، وأكل أشهى الطعام ، بفضل دعمه

المزعوم .

          ومن دواعي استمراريته في هذه القرية ،

مغامراته الجنسية فيها ، فهو يستغل وضعه

معلماوحيدا ، يستشيره الجميع في كل الأمور ،

قانون ، سياسة ، زراعة ، وحتى أمور الدين ، وكثيرا

ما كان يتبجح بمقولة ، [ من علمني حرفا ، كنت له

عبدا ] ، مشددا بتلذذ عظيم على كلمة [ عبد] ، كل

هذا استخدمه طعما في اصطياد النساء الساذجات ،

بالإضافة إلى كونه عازبا لم يتجاوز الثلاثين، يعد

نفسه متميزا بثقافته ، وعاداته ، وملبسه ، ومشربه ،

ومن هذا المنطلق ، يصر على ارتداء طقمه البني ،

وقميصه البرتقالي ، وربطة عنقه الحمراء ، في كل

الأوقات ، وكان يطيل الوقت حين ينظف أسنانه ،

ليراه أكبر عدد ممكن من الأهالي ، وإلى أن ينبثق

الدم من لثته الملتهبة .

        إنه يرى في شخصه ملكا ، في هذه القرية

الغافلة . لكن ما ينغص عيشه هي [ خديجة ] والدة

تلميذه [ جمعة الخلف ] ، أجمل نساء القرية ،

الأرملة ، والوحيدة ، والتي تستطيع لو شاءت أن

تتسلل إليه ، أو يتسلل إليها ، فالبيت قريب ، ولكنها

نفرت من كل المحاولات .

        ذات يوم طرق بابها ، بعد منتصف الليل ،

فرجع مغسولا ببصقة ، مازال يحس وقعها على

وجهه ، مما جعله يتنازل ، وبدافع شهوته المتقدة

نحوها ، ويعرض عليها الزواج ، فتعللت له بولدها ،

وبأنها نذرت حياتها من أجله ، فأضحت جرحه

الكبير ، وتحولت شهوته إلى جرح عميق ، انصب

على ولدها [ جمعة ] ، فصار يضرب بعد الدلال ..

رغم تفوقه ، فتنتقل شكواه ودموعه إلى أمه ، التي

تشكو أمرها وأمر ابنها إلى الله .

        كان الأستاذ [ حمدان ] يقف على الكرسي ،

يتلصص من خلال النافذة ، مراقبا حركة التلاميذ

في استراحتهم ، فما إن تبدر أية حركة من اللعب

البريء من الصبي ، حتى يباغت بصوت الأستاذ

المتجسس ، ويبدأ التحقيق معه ، وفي النهاية تكون

العقوبة القاسية ، هي الجزاء المنتظر لهذا اليتيم

المسكين .

        واليوم ... حدث ما يبرر كل حقد [ حمدان ]

على تلميذه [ جمعة ] ، وشاهد من خلال النافذة ،

التلاميذ يلعبون بكرة مصنوعة من الخرق البالية ،

لأنه حرم عليهم اللعب بالكرة الحقيقية ، التي جمع

ثمنها منهم ، ولما كان [ جمعة ] بينهم ، اندفع

[ حمدان ] إلى الباحة الترابية ، وأطلق صفارة

الإنذار ، فتجمد الدم في عروق الصغار ، اقترب من

الكرة ، تفحصها جيدا ، ثم صرخ :

        ـ من دس علم المدرسة ، مع هذه الخرق ؟.

          خيم على رؤوسهم صمت رهيب ، وتوجه

{ حمدان } بنظره الحاقد صوب { جمعة } :

        ـ أنت .. أليس كذلك ؟ .. قسما بالله

سأسحقك .

وانبعث صوت الطفل ، مبهوتا لهذا الإتهام :

         ـ لست أنا .. يا أستاذ !!

         ـ اخرس يا كلب .. هذا عمل لا يقوم به

سواك .

         ـ وحق المصحف يا أستاذ ، أنا لا علاقة لي

بصنع الكرة .

وعلى الفور ، أمر الأستاذ بعض التلاميذ ، فرفعوا

قدمي { جمعة } إلى الأعلى ، وانهال عليه بعصاه

الغليظة ، فانطلق صراخ الطفل ، بريئا ، لينتشر في

أرجاء القرية المتناثرة البيوت ، فالتم الناس على

صوت العويل ، وأسرع بعض الصبية ، فأخبروا

الأرملة .

        تحلق الأهالي رجالا ونساء وأطفال ، وجميعهم

يسألون :

         ـ ماذا فعل { جمعة } .. ؟ .

وكان الصغار يتولون الجواب :

         ـ لقد صنع من علم البلاد كرة .

        والأستاذ { حمدان } منهمك بضرب الصغير ،

غير عابىء بصراخه وتوسلاته :

        ـ أستاذ .. دخيلك .. أبوس رجلك .. اتركني .

وقبل أن تجد توسلات الصغير ، مكانا في قلب

الأستاذ ، الذي كان يزهو داخليا ، لأنه مركز لهذه

الأحداث ، جاءه صوت { خديجة } ، الذي يميزه عن

أصوات نساء الأرض :

        ـ لماذا تضرب ولدي هكذا ، يا حضرة

الأستاذ ؟!.

فزعق [ حمدان ] بوجهها :

        ـ لأنه مجرم .. مخرب .. خائن .. هل فهكت ؟ .

       اقترب الحاضرون أكثر من المعلم ، المتقطع

الأنفاس  :

        سأبعثه إلى السجن ، قسما سأبلغ السلطات

عنه ، هذه جريمة لا يسكت عنها .

صرخت الأم بانفعال شديد :

      ـ يعني ما حصل شيء ، ولد لا يفرق بين العلم ،

وأية خرقة أخرى ...

زمجر المعلم المتلذذ بهذه المشاجرة الكلامية :

          ـ ولد ..؟!! .. لا يعرف قيمة العلم ؟!.. هذا

غير صحيح ، من منكم ـ وتوجه بكلامه للحاضرين

ـ  من منكم .. لا يعرف بأن العلم رمز للدولة ؟؟!!..

        اقترب المختار { أبو قاسم } ، يرجوه :

        ـ يا أستاذ [ حمدان ] ، هذا ولد .. يجب ألا

تؤاخذه ، على هذه الغلطة .

صاح [ حمدان ] :

        حتى أنت يامختار ؟؟؟!!!... والله سأكتب

تقريرا إلى مختلف الجهات الأمنية ...

... سأذكر وجهت نظرك هذه يا أبا قاسم : ـ أنا يجب

أن لا أتناقش معكم ، في هذا الموضوع .. أصلا ليس

من قيمتي أن أتناقش مع أحدكم ، هذا موضوع

خطير ، وأنتم لا تفهمون بالسياسة ، سأكتب ... ومن

لا يعجبه سأذكر اسمه في التقرير ، فأنا لا يجوز لي

التسامح في هذا الشأن ، وأنا لعلمكم كاتب تقارير

ممتاز ، ومن لا يصدق فليذهب إلى قائد قطعتي في

الجيش ، ويسأله عن تقاريري ، كان يضرب المثل

بها ، أمام رفاقي ، ومن هذه الناحية ... أنا لن أخسر

شيئا ، سوى كتابة التقرير ، ووضع توقيعي وخاتم

المدرسة عليه ، ثم تأتي الدوريات .

        ولما أراد المختار أن يتدخل مرة أخرى ،

حدجه الأستاذ بنظرة ذات معنى ، وكتم بهجته ..

بإرباكه .. وصرخ :

        ـ أرجوك يا جناب المختار ، لا تتفوه بكلمة

ستندم عليها ... ومسؤوليتك أن تبلغ عنه بنفسك .

        نشر الخوف ظلاله على الجميع ، وتعثرت

الكلمات على شفاههم ، مرت لحظات منحوته من

دمع وظلام ، حار الواقفون ، وطال صمتهم ، فكر

[ أبو عيشة ] أن يساند [ حمدان ] ، حتى لا يظل

متعاليا عليه ، لكنه خجل من ل[ خديجة ] ، أرملة

[ نايف ] ابن عمه ، التي رآها واقفة بانكسار .

        تردد أصحاب النخوة في مواقفهم ، وتقدم

[ أبو نواف ] ، وطبع قبلة على شارب المعلم ،

وتشجع  [ أبو ممدوح ] ، فعزم على الجميع ، أن

يتفضلوا إلى داره ، ليذبح خروفا إكراما للأستاذ ...

هكذا راح يقسم .

        وانكبت خالة الأرملة العجوز ، على يد

[ حمدان ] ، تقبلها ، وتبللها بدموعها .

كثرت التوسلات ، وتعالت الأصوات ... مسترحمة ،

مستعطفة ، حتى [ خديجة ] ... تهدجت كلماتها من

الفزع .. وهي تتمتم :

        ـ هذا طفل يا أستاذ ... لو كان رجلا ...

ولم تكمل كلامها ، حتى انتفش كالطاووس ، وهو

يزعق بتلذذ :

        ـ السلطات العليا وحدها ستقرر مصير ابن

الخائن هذا ..

انصعقت [ خديجة ] ، توقعت كل شيء ، إلآ أن يتهم

زوجها بالخيانة ، وحاولت أن تتمالك ، فلتصمت ...

عن هذه الإهانة ، فالجميع يعرفون من هو زوجها ،

المهم الآن ... أن تستعطف هذا الحاقد ، لأن مصير

ولدها [ جمعة ] في خطر ، فابتلعت الإهانة ،

وضغطت على جرحها ، وقالت :

        ـ سامحك الله يا أستاذ [ حمدان ] ، لو كنت

تعرف أي الرجال ، كان [ أبو جمعة ] ، لما اتهمته

بالخيانة .

        أدرك [ حمدان ] نقطة الضعف عند غريمته ،

فعزم على تمريغ اسم المرحوم :

        ـ لو لم يكن جبانا ، لما أنجب هذا الولد الخائن .

وهنا فقدت [ خديجة ] رشدها ، لم تعد تحتمل أكثر

مما سمعت ، فصرخت كمجنونة ، واندفعت

بتجاه      [ حمدان ] :

        ـ اخرس ... اخرس ياكلب ، من أنت ، حتى

تقول عن [ أبي جمعة ] جبان ؟؟؟!!!!.. متى أصبح

الشهيد خائنا ؟!.. اذهب فاسأل تربة الجولان ،

لتعرف من هو [ أبو جمعة ] ، أنت مجرد نذل ..

حقير ، حاولت النيل من عرض هذا الشهيد ، الذي لا

تساوي أنت وتقاريرك فردة حذائه .

        واندفعت نحوه أكثر ، رافعة يدها بقوة ، تريد

أن تصفعه ، في تلك اللحظة ، عندما كان يتراجع  

[ حمدان ] مذعورا كالفأر ، شاهد جميع من كان

حاضرا ، من أهالي [ تل مكسور ] يد [ خديجة ]

الطاهرة ، تخفق في سماء القرية المكتنزة بالغيوم ،

بشموخ وكبرياء ، ترتفع تماما مثل علم البلاد .

                         مصطفى الحاج حسين .
                                   حلب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق