( موعد مع الحياة)
وقف رجل خمسيني، هزيل البنية،يغالب بياض شعره سواده،امام قبر زوجته،
وهو يضع زهور الفل التى كانت تعشقها. وقد رسم الزمن
على وجهه لوحة فنية متقنة من التجاعيد أظهرته وكأنه تجاوز الثمانين،
وبعد أن انتهى من قراءة الفاتحة وبعض الأدعية ،سمع صوت يقول:"
قلقت عليك أستاذي ،فأنت لم تأتي الاسبوع الماضي،وقد عهدناك دائم
المجئ منذ أن رحلت السيدة".
ألتفت فرأى حارس المقبرة ورد عليه:"كنت مريض بعض الشئ،فأنت
تعلم اني مريض بالقلب منذ أن فارقتني روحي". و تساقطت عبرات
ساخنة ،فانسحب حارس القبر في هدوء ،تاركا ذكريات الرجل تصارعه.
عشرون عاما قضاها وهو يعارك الحياة بأحداثها لوحده ،مبتور القلب ،
منزوع الروح ،شارد الفكر،فقد كانت هي الحبيبة والصديقة والشريكة،
فكانت نجمته التى تخيرها لتزين سماء وحدته،وكانت وردته التى غرسها
في ارضه الجرداء،فطرحت له ولدين من أبهى خلق الله.
تمتم قائلا :"اعذريني ياحبيبتي ،لم أتمكن من زيارتك الجمعة الماضية،
فقد تمكن مني المرض ،ويبدو أن مخالبه تضرب بشده في جسدي،ولكني
لا أستطيع إن أغيب عنك طويلا،فتحاملت على نفسي لاتيك".
جلس بجوار قبر زوجته واخذ يمسح بيده عليه ،ثم تنهد بعمق قائلا
:"عشرون عاما ياحبيبتي مرت علي تقيلة ،كسيحة،اجر في أقدام الايام،
واشد حبال الزمن شدا،لإنهى مسئوليات احنت ظهري،كم كانت تلك السنوات
مريرة كصبار علقم أجبرت على تناوله يوميا ،وأنا أمن نفسي بأن الصبار
سيأتي يوما لن اتناوله".
لن أنسى مطلقا ذاك اليوم الذى فقدتك فيه،كانت ليلة باردة ماطرة،
وكأن السماء تبكي لوداعك ،فقد اشتدت عليك الحمى بلا سبب،وطفت
بك على كل الأطباء ولكن دون جدوى ،واختطفك الموت مني خطفا،
وكانت ليلة من أحلك الليالى في عمري.
لقد خارت قواي ،وارتسم الوجع أمامي طريقا طويلا موحلا،فكيف لي
أن استكمل دربا لست فيه معي ؟! كيف لي أن أمارس حياة كنت فيها
كل الحياة ؟! كيف يبتسم قلبي بعدما انتزع القدر قلبي؟!
أحداث عديدة مرت علي ،كلما احسست بالوهن ،جئتك لابث لك همي،
واسترجع حبي ،فصار يوم الجمعة هو موعد غرامنا ،أسرع إليك فيه،
لأقص عليك أمور حياتنا ،وكيف أن ولديك قد انعم الله عليهما بالنجاح
والتفوق ،والكل يشهد بحسن أخلاقهما وتربيتهما،وكيف لا ؟! والاصل
طيب المسك يفوح الجميل منه للابد.
وها هما ولديك ،قد اشتد ساعديهما ،وتخرجا من الجامعة ،ووجد كل منهما
عملا يناسبه ،ويستعدان للزواج.
قرة عينيك ياحبيبتي،سيتزوجان وسيكون لنا أحفادا إن شاء الله ،
وستظل قصة حبنا خالدة على ألسنتهم أبد العمر.
زفر زفرة قوية ،وكأنه يرسل للعالم آخر وجع حبيس بقلبه،ثم قال وعيناه
تذرف دمعا:"أمـَ آن الأوان ياحبيبتي إن تستقبليني بذراعيك الدافئتين،
أمَـ آن الأوان إن أبدا سعادتي معك برحيلي عن هذه الحياة المزعجة ،
لقد أديت رسالتي على أكمل وجه ،وثابرت في سبيل مهمتي اشد مثابرة،
أملا في أن ألقاك في نهاية المطاف ،لنستكمل حياتنا التى انتهت سريعا
على ارض الواقع،فأنا في اشد اللهفة إن أراك واسكن بين أحضانك ،
واشعل مصابيح وحدتي بجوارك ،أظن ان الاوان قد حان ياعزيزتي ،
فانتظريني ،فموعد رحيلى عن هذه الضوضاء قد بات وشيكا ،فقط
أستعدي وتزيني لحبيبك القادم".
لم ولن تتوقف دموع رجل،ألتحف قلبه بالسواد حدادا على زوجة رأها
كل الحياة حتى بعد أن فارقت هي الحياة.
#هبةحامد#
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق