الأحد، 10 فبراير 2019

الإنزلاق ( بقلم : مصطفى الحاج محمد )

الإنزلاق ...

                           قصة : مصطفى الحاج حسين . 

       ماإن وصلت الحافلة ، حتّى تدفقت جموع الركاب

للصعود من كلا البابين ، ثمّة عدد من الفتيان الأشقياء ،

تسلٌقوا أطرافها وتسلّلوا من نوافذها .

       اتخدت مكاني في المنتصف ، وقد أمسكت يسراي

الكرسي ، المشغول بامرأة ورجلين ، و كانت يمنايّ تحمل

كتاباً وجريدة ، بالقرب منّي كانت تقف فتاة شقراء ،

تشبه الشّقراوات اللواتي يظهرن في أحلامي بكثرة .

       مذهلة القوام ، لم أتبيّن ملامح وجهها

بسبب وقفتها الجانبية ، تمنيت أن أرى عينيها ، فتاة

مثلها ذات شعر أشقر مسدل ، لابدّ أن تكون صاحبة أجمل

عينين .. توقفت الحافلة عدّة مرات ، وفي كلّ مرّة كان

عددالركاب يتزايد ، ورائحة الحموضة تشتد وتتزاحم

الأنفاس والأجساد ، حتى وصلتُ إلى ظهر تلك الفتاة ،

وبات جسدي ملتصقاً بها ، وخصلات شعرها أخذت تحطّ

على وجهي ، كلّما استطاعت نفحة هواء أن تصل

إليه .

       خطر لي أن أبتعد عنها ، فقد تسرّبت إلى نفسي

رائحة الأنوثة ، التي حرمت منها ، تلفّت حولي لعلّي أجد

مكاناً أوسع لي ، ولكن إلى أين ؟.. وهذه الوقفة المريحة،

وهذا الجسد اللدن يدعوانك للاقتراب أكثر .

       الحافلة تهتز وتفرمل وتمشي ، وعلى هذه الأنغام ،

كنتُ أنعمُ بالالتصاق خلف تلك السّاحرة ، وأتلفّت حولي

بين اللحظة والأخرى ، خوفاً من أن يكون قد أحسّ

بحركاتي أحد الركاب .

       وفكرت :

- لماذا لا أتخذ موضعاً أكثر اثارة ، ولن يلحظني أحد ؟!..

وهي لن تمانع .. يبدو أنها معتادة على مثل هذا الزّحام ،

لكن هاجساً بداخلي أجابني :

- ماذا تقول ياأستاذ ؟! .. أتعود مراهقاً من جديد ، ألا

تخجل !؟.

       لم أعثر حولي على مكان غير مكاني ، الازدحام

يزداد .. والمسافة إلى محطة الوصول بعيدة ، و فاتنتي

تقف ساكنة لا تلتفت ، كانت سارحة خلف الزجاج .

- لا تكن جباناً وأحمق ، لماذا لا تنعم بهذه اللحظات

الدافئة !!.. ليت الطريق يطول أكثر ، وليت هذه الغادة

الشقراء لا تنزل أبداً .. طوال عمرك وأنت تحلم

بالشقراوات ، والحياة تضنّ عليكَ بامرأة ، مجرد امرأة ،

فكيف شقراء ؟!.. إذاً اغتنم هذه اللحظات ،شدّ عليها ،

اجذبها إليك ، ولا تدعها تفلت.

     أمامك سنوات ستقضيها وحيداً دون امرأة تشاركك

فراشك .. تزوّد بالدفء الآن ، بالأنوثة .. بنعومة الشعر ..

بنضارة العنق الذي تكاد شفتاك تنقضان عليه .. تزود

بلمسة ، فأمامك ليل طويل ، بمكنك عندها ، أن تتذكر

هذه اللمسات ، وتستحضر هذه الناعمة ، وتبدأ بممارسة

عادتك الجهنّمية ، وحيداً ستكون ، تتلوّى في فراشك ،

تزأر عروقك بالشّهوة ، تستعر أنفاسك ، ونبض قلبك

محترقاً .. خذ لمسة من عجيزتها .. لمسة واحدة ...

تكفيك طوال العمر .

       أمر زواجك مستحيل ، ربما بعد خمس سنوات ..

وأنت تشارف على الأربعين ، تستطيع أن تفكر .. أنت

فقير وراتبك تتلقفه أمك وشقيقاتك ، منذ أول الشهر ..

لولا فقرك هذا لما وافقت أمك على طلب يد " فطوم "

ابنة أخيها .. آهٍ فطوم .. سمراء بلون الصدأ ، قصيرة مثل

برميل ، وعيناها ثقبان بجفون مبطّنة ، وشعرها كأسلاك

شائكة ، فمها واسع التكشيرة ، وأنفها ضخم مكتنز .

       قلتَ حينها في نفسك :

- فطوم .. أفضل من لا امرأة ، والنساء على أية حال

متساويات فوق السّرير في الظّلام ، وهكذا ذهبت مع

أمك وأخواتك العوانس الخمس ، لطلب يد " فطوم "  ...

وكم كانت المفاجأة قاسية عليك ، إذ طلب خالك منكم ،

أن يكون سكنك وحدك ، بعيداً عن أمك وشقيقاتك

العوانس ، وعليك أن تدفع مئة ألف ليرة للمقدم ، ومثلها

للمؤخر ، عدا ثمن الذهب خمسين ألف ليرة .. إذا كنت

فعلاً راغباً بفطوم .

       انعم إذاً بهذه الشقراء .. اقترب أكثر ..

التصق ، حرّك فخذيك قليلاً ، وتحسّس بيدك عجيزتها

المكتنزة ، تحسّس ولا تخف ، فالكتاب والجريدة كفيلان

بالتمويه..اقترب واياك أن تحدثني عن الأخلاق ، أما

يكفيك أنّك كلٌ يوم لا يتوقف لسانك عن ذكر الأخلاق

الحميدة والفاضلة أمام طلابك؟ ماذا جنيت من كلّ

ذلك ؟ هل نفعتك ؟ .. كل ما تستطيع فعله هو أن

تحترق ، أمام وسحر وجمال طالباتك .. إذا كنت تعدّ

نفسك إنساناً مثقفاً وموضوعياً فعليك أن تعترف بأنك

رجل مكبوت ، والجنس ضروري في حياة الإنسان ،

فلماذا تمنع نفسك عن اللذة ؟ ...

بالأمس تهربت من الآذنة أم " محمود " بحجة أنها كبيرة ،

وتعمل آذنة في الثانوية ،إذاً ماذا تفعل وقد ثبت فشلك

مع زميلاتك المدرسات ، عجزت عن اقامة أي علاقة

باحداهن ، والسبب هو أخلاقك الفاضلة ... إنك لا تعرف

الخداع ، كلما تعرفت إلى واحدة صارحتها بحقيقة

وضعك المادي .. وتهرب منك .

       في هذه اللحظة وجدتني ضعيفاً مستسلماً لشهوتي

الحقيرة ، وها أنا أمدّ يدي الراعشة ، لتتحسّس ما تصبو

إليه ، وبسرعة غير متوقعة ، التفتت فاتنتي إلى الخلف ،

والصرخة ملء فيها .. وياللهول !! .. كم كانت المفاجأة

عنيفة وقاسية ، كظمت صرختها والدهشة المتجمدة على

قسمات وجهها وعينيها الجزعتين :

- لا .. لا هذا ليس معقولاً .. شيء لا يصدق ،

مستحيل .. لا يعقل أن تكون هذه الشقراء احدى

طالباتي ، في الصف الحادي عشر ؟!

رباه لا بدّ أني في حلم .. هذه الشقراء أعرفها جيداً ، إنها "

نوران " أكثر الطالبات اجتهاداً ، تعتني دوماً بجمالها

الآخاذ وذكاؤها عال وبديهتها سريعة ، أعرف أنها تكن لي

فائق الاحترام ، وهي تحبّ مادة الفلسفة .. ومرّة

سألتني :

- لماذا ياأستاذ يكون مدرسوا الفلسفة إنسانيّن وطيّبين

كثيراً ؟ .

       في تلك اللحظة سررت كثيراً من سؤالها ، اعتبرت

كلاًمها مغازلة غير مباشرة ، ألستُ أحد مدرسي

الفلسفة ؟ .. إنها تقصدني إذاً ، تمنيتُ أن أتقدم وأطلب

يدها ..لكنّ فقري سرعان ما قفز ومزّق فارق

السّن الأحلام .

       في احدى المرات أخبرتني بأنّها تتمنّى أن تختص

في الفلسفة ، فهي معجبة بسقراط الحكيم وبحكمته ،

ولكنها كانت تفكر بالطريقة التي تقنع أهلها ، ففرع

الفلسفة غير موجود في جامعة حلب ، عليها أن تذهب

إلى جامعة دمشق ، وهذا ماسوف يمانعه والدها .

       عندما التفتت ، كان ذلك الشعور الذي ارتكبني أكبر

من الخجل ، إنه شعور بالعار والاثم والفضيحة ، شعور

جعلني أنكر ذاتي ، لقد سقط القناع عنّي أخيراً ،

واكتشفت مدى ما آلت إليه قدرات الشهوانية عندي ، إنّي

بكل بساطة أنقسم إلى إثنين : مدرس فلسفة يتشبث

بالأخلاق والفضيلة ، وحيوان شهواني عبد وضيع

لشهواتي . تمنيت لو تنشق أرضية الحافلة فأسقط

وأضيع .. أموت .. لعلي أنتهي وتنتهي " نوران" أيضاً.

       ابتعدت عنها ، تراجعت عن نظرة الاشمئزاز ، التي

قذفتني بها ، اندفعت بقوة نحو الباب ، أخذت طريقي

بصعوبة بالغة ، ومن شدّة توتري وشعوري بالخزي ،

دهست قدم طفلة تمسك بأذيال أمها ، التي تحمل

رضيعها ، فانبعث صراخ الطفلة فاغرة ببكاء حاد ، تابعت

انهزامي غير عابئ بالنظرات الشذراء .. وقفزت عند أول

موقف .

       غداً كيف سأواجهها في الصّف ؟ .. لابدّ أنها ستبلغ

عني زميلاتها الطالبات .. وسيتبرّعن بدورهنّ لنشر

الخبر ، وربما تسّربت الفضيحة إلى بقية الثانويات

الموزعة ساعاتي فيها . ثمّ ماذا لو ذهبت " نوران "

وأخبرت والدها ؟ .. حتماً سأجده غداً بانتظاري عند

المدير ، الذي يعتبرني أفضل المدرسين عنده،

ياللفضيحة .. سيخبر المدرسين والمدرسات ، بما

اقترفته.

       سرت في الطريق ساهماً ، قلبي بنزف ألماً وخجلاً ،

ودمعتي تكاد تقفز من عيوني ، كان عليّ أن أعرفها منذ

النظرة الأولى ، فهي من أحبّ الطالبات إلى قلبي ، فكم

من مرة حلمت بها ، وعرّيتها من " بدلة الفتوة " . كيف لم

أعرفها !؟ .. ألأنها كانت ترتدي كنزة صفراء وبنطال

الجنز !! .. أم لأني لم أر وجهها ؟؟ .. كان غباء منّي ..

ولكن ما حصل قد حصل .

       عليّ أن أطلب نقلي من الثانوية منذ الغد ، وإذا

وجدت الخبر منتشراً في الثانويات ، سأطلب نقلي إلى

الريف ، أو ربما قدمت استقالتي .

       وعندما عدّت إلى منزلي متأخراً .. كانت المفاجأة

تنتظرني ، نعم لقد وافق خالي أن يزوجني " فطوم "

مقابل أن أسجّل لها نصف دارنا .. وسيكتب المقدّم عليّ

مئة ألف غير مقبوضة ، ومثلها للمؤخر .

       وما كان بمقدوري إلّا أن أوافق .. فأنا فقير ومسؤول

عن أسرة ، وليس من حقي أن أحلم بفتاة شقراء ، يجب

أن أتخلى عن الرومانسية ، فالفقر والجمال عدوان لا

بجتمعان ... سأتزوج من " فطوم " .. وعندها أنام معها

سأطفئ النور ، وفي الظلام كل شيء متساو ومتشابه ،

فالظلام نعمة يجب أن نحافظ عليه .

                                  مصطفى الحاج حسين
                                           حلب ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق