السبت، 13 يناير 2018

ملح السراب __ مصطفى الحاج حسين

رواية .. ( ملح السّراب )

                                      ( الفصل الرابع )

                        الكاتب :  مصطفى الحاج حسين .

كان عائداً من عمله ، منهكاً لا يقوى على جرّ نفسه ،

فتحت له "مريم " الباب ، وهتفت بفرح واضح :

- " رضوان " .. أنا أعرف كتابة اسمي .

ظنّها تهلوس، فهي أمّيّة مثله ، فسألها ساخراً :

- وكيف تعلّمتِ الكتابة ياعبقريّة ؟.

- من " سميرة " ، هي التي علّمتني .

خفق قلبه ، أمعقول هذا ؟! .. هل يمكن له أن يتعلّم ،

وهو ابن الثانية عشرة ، وبرقت في ذهنه فكرة ،

سرعان ما كبرت ، قبل أن يخطو عتبة الغرفة :

-  سأعرض على " سامح " أن يعلّمني ، سأرجوه إن

رفض . سأشتري له " البوظة " .

وفجأة .. شعر برغبة عارمة ، في رؤية  "سامح " ،

قرر أن يذهب إليه حالاً ، وقبل أن يغسل يديه

ووجهه من الغبار والعرق ، ودون أن يغيّر ثيابه

المهترئة والمتّسخة ، قفز مسرعاً، بينما كانت أمّه

تعدّ له طعام الغداء .

دخل بيت عمّه " قدّور "، وجد " سامحاً" محنيّاً على

كتابة وظائفه ، فقال بسرعة :

- " سامح " أريدك أن تعلّمني كتابة اسمي .

رفع " سامح " رأسه نحوه ، وارتسمت ابتسامة

ساخرة على شفتيه :

- تعلّم الكتابة صعب عليك .

- ولماذا صعب ؟!.

هكذا سأل بحنق .

- صعب .. ثمّ ماذا ستستفيد إن تعلّمت كتابة

اسمك ؟!.

- سأستفيد ، سأتعلّم كتابة اسمك واسم أبي وأمّي و

مريم وسميرة أيضاً .

ضحك " سامح " ، فاغتاظ " رضوان " وقد أدرك

شعور ابن عمّه بالتفوق عليه ، فأحسّ نحوه بكرهٍ

شديدٍ ، غير أنّه وفي هذه اللحظة لا يريد إغضابه ،

وهو على أيّ حال قادر على ضربه ، لذلك كبح

حنقه :

- ماذا قلت ؟؟.. هل أنت موافق ؟.

هزّ " سامح " رأسه علامة الموافقة ، وبقيّ صامتاً

يتطلّع إلى الأرض ، كأنّه يفكّر بشيء ما .

- إذاً هيّا بنا .. تعال علّمني .

- لا .. ليس الآن ، سأعلّمك ولكن فيما بعد .

- ولماذا فيما بعد ؟!.. أنا جاهز الآن .

سأل بلهفة من فقد صبره .

- اسمع يا " رضوان " ، هناك فتى في صفّي يزعجني

كلّ يوم ، وأنا لا أقدر عليه ، أريدك أ تنتظره عند

باب المدرسة وتضربه .. هذا هو شرطي ، لكي

أعلّمك ، فما رأيك ؟ .

صرخ " رضوان " دون تفكير ، فلقد شعر بالنّشوة

والاعتزاز بنفسه ، " فسامح " يعترف بقوّته ، بشكل

غير مباشر :

- طبعاً أنا موافق .. حتّى من غير أن

تعلّمني ، فأنت ابن عمي ، أنا على استعداد لقتله

نهائياً من أجلك .

عاد " رضوان " إلى بيته ، وهو يفكر :

-  سوف أجعله عبرة لكلّ الطلاب الذين لا أحبّهم ،

فأنا قويّ ، الجميع يشهد لي بذلك ، وكلّ من يدرس

يحسدني على قوّتي .

في اليوم التالي ، وقف " رضوان " قرب المدرسة ،

ينتظر وهو متفائل بقدرته على سحق خصمه ،

ولذلك فهو لم يحمل معه سلاحاً ، كان يهمس في

سرّه :

-  سأعاركه بيديّ ، وإذا لزم الأمر سأشقّ رأسه

بالحجارة .

وكان يتخيّل كيف أنّ " سامحاً " سيحسدّه على

قوته ، ويعرف أنّه بدونه لا يساوي شيئاً .

بدأ الطلاب يخرجون ، فأخذ يحملق فيهم واحداً

واحداً .. ولاح له " سامح " يرتدي صدريّته ويحمل

حقيبته، ولمّا اقترب منه كان وجهه مصفراً ، فدنا

منه وهمس :

-  " رضوان " .. أنا خائف .

فصاح " رضوان " بصوت مرتعش :

- ولماذا تخاف ؟؟!! .. أنت دلّني عليه فقط .

فقال " سامح " بصوته المضطرب :

- سيعرف أنّك ابن عمّي ، وسيقدّم شكوى بحقّي

للأستاذ .

- لا عليك .. لن أجعله يعرف من أنا .. سأتبعه إلى أن

يبتعد، ثمّ أنقضُ عليه وأرميه مثل الكلب فوق

التّراب .

ابتعد " سامح " كالمذعور وهو يهمس:

- لقد جاء .. ها هو ، ذاك الذي يحمل حقيبة سوداء

كبيرة .

نظر " رضوان "حوله، فشاهد عدداً كبيراً من التّلاميذ

متشابهي الثياب ، غير أنه عرف خصمه من بينهم ،

صاحب المحفظة السّوداء ، وعندما اقترب منه ،

وجده أطول قامة ، وتظهر في وجهه علامات القوّة

والشقاوة، تبعه " رضوان" بينما كان"سامح " يبتعد ،

وهو ينظر خلفه ، بين اللحظة والأخرى .

دخل الخصم في زقاق جانبي ، وأخذ يسرع خطاه ،

عندما عاجله " رضوان " بصرخة قويّة:

- توقّف ياكلب .. توقّف عندك .

التفت ذو المحفظة السّوداء مستغرباً ، فرأى "رضوان

" مسرعاً نحوه وهو يصرخ :

- نعم .. أنت .. توقف ، سوف ألعن أباك .

وفور وصوله هجم عليه ، مسدداً ضربة قوية على

وجهه ، فحمل هذا محفظته ، وهوى بها على وجه "

رضوان " فتدفق الدّم من أنفه غزيراً ، فجنّ جنونه .

وزعق :

- سأفعل بأمك يا ابن ال ....

والتقط حجراً كبيراً وقفذف بها خصمه، الذي تفاداها

ببراعة ، واشتبكا بقوة ، وكلّ يحاول أن ينتف شعر

الآخر ، بينما دم " رضوان " يسيل على وجهه ،

والتفّ الصبية يتفرّجون على المشهد المثير ، ومن

بعدٍ لمح " رضوان " ابن عمّه " سامحاً " واقفاً

يراقب المعركة ، فشعر نحوه بالحقد ، كيف يقف

هكذا دون أن يساعده ، فهذا الخصم قويّ لا يستهان

به ، وندم لأنّه لم يأت معه بسلاح، وأصابه الخجل

عندما استطاع خصمه أن يلوي له ذراعه ، لا بدّ أنّ "

سامحاً " يسخر منه الآن ، يده تكاد تكسر تحت

ثقل الضغط ، ففكر أن يستغيث " بسامح " ، ولكن

قوته المزعومة ستهتز حقاً في نظر " سامح " ..

تألم كثيراً ولكنّه استطاع في اللحظة الأخيرة أن

يصرخ :

- اترك يدي ياابن السّافلة .. لقد كسرتها .

ولم يكد يكمل عبارته حتّى جاءته ركلة على

مؤخرته ، تحرّرت يده وركض يبحث عن حجر ،

لكنّه وجد صاحب المحفظة ينحني على الأرض ،

فانطلق يعدو وخلفه خصمه ، وهو يهتف :

- توقّف يا جبان .. سألعن أباك .

حول سور المدرسة قعد " رضوان " حاملاً في طيّات

نفسه ذلّه وانكساره ، لقد هزم ..

ياللفضيحة ، وكان يتساءل :

-  كيف سأقابل " سامحاً " ؟. وماذا سيقول هذا

الوغد " لسميرة " ، التي أتظاهر أمامها دائماً

بالقوة ؟؟ .. اللعنة عليك يا " سامح " ، هل نصبت

لي فخاً ؟!؟!.. هل كنت تعرف مدى قوة ذلك

السّافل ؟؟.. ودفعتني لأتعارك معه ؟ ..

أكنتَ تمتحن قوتي ؟!.. أم كنت مخدوعاً بقوتي

مثلما كنتُ أنا مخدوع .. ولكنّي سأريك قبل أن أري

خصمي ، بأنّي لست جباناً .. فإن هربت اليوم ،

فذلك لأنّي متعب من العمل ، في الغد سأحتال على

أبي وأبقى في البيت ، وآتي إلى المدرسة ، قسماً

سأهشّم رأسه ، سأضربه حتّى الموت .. فلا تسخر

منّي ياوغد ، وإياك أن تذكر شيئاً أمام أختك "

سميرة " .

ما كان عليّ أن أهرب ، كان عليّ أن أحمل سلاحاً ،

وأن أجد حجراً ، بدل أن أهرب .. اللعنة على

الحجارة ، حين نحتاجها لا نجدها .. ما أبشع

الهزيمة ؟! .

ظلّ " رضوان " هكذا متوارياً ، يفكّر .. وها قد حلّ

الظّلام ، ولا بدّ له أن يعود ، قبل أن يتفقّده أبوه .

وفي اليوم التالي ، استطاع " رضوان " أن يحتال

على أبيه ، ولم يذهب إلى الشغل ، نهض من فراشه

متّجهاً نحو المطبخ ، وأخذ يتفحّص السّكاكين،

فانتقى واحدة لينتقم بها لكرامته ويستعيد ماء

وجهه من خصمه ، وبسرعة أخفاها وراء ظهره ،

حين دخلت عليه أمّه سائلة :

- لمَ تركت فراشك وأنتَ مريض ؟ .

فهرب أمامها دون أن تلمح السّكين ، إنّه لا يخافها

على الإطلاق ، وهي أيضاً تتستّر عليه فلا تخبر

والده بما يفعله . ولقد كتمت أمر تدخينه السّجائر

أمامها رغم تهديداتها المتكررة .

كان عليه أن ينتظر ، ريثما يحين موعد انصراف

طلاب المدارس ، فقضى هذا الوقت في محاولة

تجربة السّكين في قطع الأشياء ، وقام بالتدرّب

عليها ، حيث يقفزها بقوة عن بعد، فتعلق بأعمدة

الكهرباء . لم يشأ أن يقابل " سامحاً " ، أجّل ذلك

ريثما يستردّ كرامته ويحقّق انتقامه ، وأقسم  :

-  لو أنّي رأيته الآن ، وشعرت بأدنى بادرة منه على

السّخرية والتقليل من شأني ، لكنت قتلته بالسّكين

فوراً .

انصرف الفوج الأول ، وتدفق الأولاد مندفعين

مبتهجين لاستعادتهم حريتهم ، فأسرع إلى زقاق

معركة الأمس ، مصمّماً على الانتقام ، في نفس

المكان الذي شهد انهزامه ، حتّى لا يشعر بالخجل

والعار كلّما مرّ به .

وقف عند الزاوية مترصداً الذاهبين والقادمين ، إلى

أن برز خصمه قادماً من بعد ، خفق قلبه في حين

اشتدّت قبضته على السّكين .. اختبأ عند المنعطف

محدثاً نفسه :

-  سأباغته بطعنة في بطنه .. وأهرب .

حينما اقترب ذو المحفظة السّوداء ، وصار بمحاذاة

المنعطف ، برز له " رضوان " شاهراً سكّينه بيده ،

انتبه الولد لهذه الحركة السّريعة ، فتجمّد مكانه لا

يعرف ماذا يفعل ، فسارعه " رضوان " بهجمة تريد

أن تصل بطنه بطعنة خارقة ، وقبل أن يصل إليه ،

انقضّت يد جبّارة لرجل شاهد " رضوان " يمشي

خلف خصمه ، ولكنه لا يدري كيف غفل عنه .

زعق الرجل وهو يشد بقوة يد " رضوان " :

- ارمِ السّكين على الأرض ياكلب .. كدت تقتل ابني .

سقطت السّكين .. وصرخ " رضوان " :

- دخيلك ياحجي .. اتركني .

في تلك اللحظة شاءت الأقدار أن ينعطف " قدور ..

أبو سامح "، في هذا الزقاق ، ويبصر ابن أخيه،

فركض نحو الرّجل صارخا ً:

- " تترجّل " على ولد ياجبان .

- سألعن والده .. كاد يقتل ابني .

لم يحتمل " قدّور " وسدّد قبضة قويّة على عين

الرجل ، فترنّح الرجل بينما كانت يده تضغط مكان

الضّربة ، وبدأ الصّياح ، فالتمّ الأطفال حول

المتشابكين ، وفتحت النساء الأبواب وبدأن

بالصراخ .

وفجأة .. وبسرّعة فائقة .. انحنى الرجل والتقط

سكين " رضوان " وقبل أن يتفاداه العم " قدّور " ،

كانت السّكين قد استقرّت في بطنه ، تعالت

الأصوات .. والصرخات .. من كلّ صوب ، بينما

كانت عينا العم شاخصتين ، لقد أذهلته المفاجأة ،

وانطلق الرجل القاتل يعدو .. ومن خلفه ابنه ..

ووقف " رضوان " يبكي ، لا يعرف كيف يتصرّف ،

ولم يتحرّك إلاّ بعد أن خرَّ عمّه على الأرض ، فأخذ

الطفل " رضوان " يركض صارخاً :

- لقد قتل عمّي " قدّور " .. عمّي مات .

                            مصطفى الحاج حسين .
                                       

         يتبعها ( الفصل الخامس )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق